تفسير هاروت وماروت في القرآن الكريم

يُعد ذكر هاروت وماروت من الأحاديث التي أثارت فضول العلماء والمفسرين على مر العصور، لما تحمله من دلالات عميقة حول مسائل الغيب والابتلاء والاختبار في الدنيا. يأتي ذكر هاروت وماروت في القرآن الكريم في سورة البقرة، في آية واحدة تشير إلى قصة غير مفصلة كثيراً، لكنها تحمل دروساً وعبرًا مهمة عن التعامل مع القوى الروحية والابتلاءات التي تواجه الإنسان في حياته.

النص القرآني وأهمية ذكر هاروت وماروت

قال تعالى في سورة البقرة، الآية 102:

“وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ”

هذه الآية القصيرة تحتوي على كم هائل من المعلومات والتوجيهات التي تحتاج إلى تفسير معمق لفهم معناها بشكل صحيح ودقيق.

السياق التاريخي لقصة هاروت وماروت

ورد في بعض كتب التفسير أن قصة هاروت وماروت تدور حول ملكين أرسلهما الله تعالى إلى أهل بابل، ليمتحنوا الناس ويختبروا إيمانهم وتقواهم، وقد كان هدف إرسال هذين الملكين اختبار قدرة البشر على التمييز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، خاصة في مسألة السحر.

يذكر بعض المفسرين أن بابل كانت مركزًا للسحر والشعوذة في ذلك العصر، وقد أرسل الله لهذين الملكين ليعلما الناس السحر، ولكن مع تحذير شديد بعدم استخدامه إلا للفصل بين الزوجين أو للحاجة القصوى، مع التحذير من الوقوع في الشرك والكفر، لأن السحر من الأمور التي تضر ولا تنفع.

معنى كلمة “فتنة” في الآية

ورد في الآية “إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ”، وهذه الكلمة تحمل في اللغة العربية معاني عدة منها الاختبار والامتحان، وأيضاً المحنة والبلاء.

في سياق هذه الآية، تعني أن هاروت وماروت لا يعلّمان السحر إلا بعد أن يحذرا الناس بأنهم فتنة وامتحان، أي أن تعلّم السحر قد يكون اختباراً لإرادة الإنسان، هل سيستخدمه للخير أم للشر، وهل سيظل مؤمنًا بالله أم سيغوي ويكفر.

طبيعة السحر وموضوع تعلّمه

ينقسم السحر الذي علمه هاروت وماروت إلى نوعين رئيسيين:

1. السحر الذي يفرق بين الزوجين: وهو السحر الذي قد يُستخدم لإثارة الفتنة والخصام بين الزوج وزوجته، ويعد من أخطر أنواع السحر لأنه يهدم بناء الأسرة، التي هي نواة المجتمع.

2. السحر الذي يضر ولا ينفع: وهو السحر الذي لا يفيد الإنسان بل يلحق الضرر به وبغيره، وقد أشارت الآية إلى أن من يتعلم هذا السحر فهو قد باع نفسه ثمناً لشيء لا يعود عليه بالنفع في الدنيا ولا في الآخرة.

تفسير ابن كثير لهاروت وماروت

يقول ابن كثير في تفسيره إن هاروت وماروت كانا ملكين أرسلهما الله ليمتحنا الناس ويعلموهم أن السحر نوع من الفتنة، وأن من يتعلمه ويستخدمه يكون قد اشترى به دينه وخساره في الدنيا والآخرة.

وأشار ابن كثير إلى أن السحر لا ضير فيه إلا بإذن الله، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى هو المتحكم في الضرر والنفع، وأن هذه القوى خارجة عن إرادة البشر إلا بإذن من الله، لذا فلا يجوز لأحد أن يلجأ إلى السحر إلا وقد علم عواقبه وخطوره.

مقاربة العلماء المعاصرين لقصة هاروت وماروت

تناول بعض العلماء المعاصرين هذه القصة من منظور اجتماعي ونفسي، حيث يرون أن ذكر هاروت وماروت يأتي كتذكير للإنسان أن هناك قوى خفية قد تُغوي الإنسان نحو طريق الضلال، وأن الإنسان مسؤول عن خياراته، فإما أن يلتزم بطاعة الله وينجو من الفتنة، أو يقع ضحية لها.

كما ينبه بعضهم إلى ضرورة فهم السياق التاريخي والاجتماعي للآية، فلا يجوز إضفاء طابع خارق لا أساس له على هذه القصة، وإنما هي محطات تعليمية ووعظية تحمل معاني التحذير من الانزلاق في الخرافات والغرائب.

الجوانب اللغوية والمعنوية في تفسير هاروت وماروت

1. معنى “الملكين”

كلمة “الملكين” جاءت بصيغة التثنية دلالة على شخصين معينين، وهما هاروت وماروت، ويُفهم من ذلك أن الأمر محدد وليس عاماً، وقد أرسل الله هذين الملكين بشكل خاص لهذا الامتحان.

2. “ما أنزل على الملكين”

لفظة “ما أنزل” تشير إلى أن الله لم ينزل عليهما الوحي بالمعنى الذي نزل به على الأنبياء، وإنما هما ملائكة معنيون بمهمة محددة، وهو تعليم الناس السحر كفتنة، وليس لتعليمهم أمور الدين الحق.

3. تعلّم السحر كاختبار

الآية تؤكد أن السحر ليس تعليماً عادياً بل هو امتحان للناس، لأن تعلّمه واستخدامه من شأنه أن يقود الإنسان إلى الكفر إذا لم يحذر.

4. التأكيد على عدم الضرر إلا بإذن الله

الآية تؤكد أن الضرر الناتج عن السحر لا يحدث إلا بإذن الله، وهو تذكير للناس بأن الله سبحانه وتعالى هو المتصرف في كل شيء، وأن السحر لا يملك من القوة ما يمكنه من تجاوز إرادة الله.

دلالات القصة في سياق العقيدة الإسلامية

تُعد قصة هاروت وماروت عبرة هامة في العقيدة الإسلامية، فهي تبرز حقيقة أن الله سبحانه يختبر عباده بأنواع مختلفة من الفتن، ومنها ما هو واضح كالحروب والابتلاءات، ومنها ما هو خفي كسحر هاروت وماروت.

هذا الامتحان هو جزء من سنن الله في الكون، ليكون الإنسان مسؤولاً عن أفعاله، ولا يكون مجرد متلقٍ سلبي للأحداث.

العلاقة بين هاروت وماروت والسحر في التراث الإسلامي

لقد أثرت قصة هاروت وماروت على التراث الإسلامي بشكل واسع، فقد تناولها الفقهاء والعلماء في علوم الشريعة واللغة، وناقشوا تأثير السحر في المجتمعات، وكيفية التعامل معه.

وكذلك في التراث الشعبي، ارتبطت القصة بفهم الناس للسحر كقوة خفية غير مأمونة العواقب، وهي تحذير ضمني من الوقوع في مثل هذه الأمور.

توضيح جدولي يبيّن الفرق بين المفاهيم المتعلقة بهاروت وماروت والسحر

أثر القصة في الحياة المعاصرة

في العصر الحديث، يبقى التحذير من السحر والفتن التي يحملها ذات أهمية كبيرة، فالرغبة في التحكم بالقوى الغيبية أو الطرق غير المشروعة لتحقيق الأهداف لا تزال قائمة، وإن اختلفت الوسائل.

قصّة هاروت وماروت تذكّر بضرورة الالتزام بتعاليم الله وعدم الانسياق وراء ما يغوي الإنسان أو يضلله، وهو درس صالح لكل زمان ومكان.

خلاصة تفسير هاروت وماروت

تفسير قصة هاروت وماروت يشير إلى اختبار الله لعباده من خلال تعليم السحر كفتنة، مع تحذير واضح من مغبة استخدامه. الملكان ليسا إلا رسلين تحملان مهمة محددة، وأي ضرر ينتج عن السحر فهو بإذن الله، والإنسان مسؤول عن اختياراته وقراراته.

في النهاية، فإن هذه القصة تؤكد على أهمية الحذر من التعامل مع القوى الخفية، والتمسك بالدين كمنهج حياة يحمي الإنسان من الوقوع في الظلمات التي لا خير فيها.

المصادر

• تفسير ابن كثير

• تفسير الطبري

هذا المقال يقدم فهماً متكاملاً وعميقاً لقصة هاروت وماروت، مبنيًا على المصادر الإسلامية التقليدية وتحليلها اللغوي والعقائدي، مع ربطها بتحديات الحياة المعاصرة.